الفـكر الإســــــــلامي

 

 

الإسلام بين الدنيا والآخرة

 

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

 

 

 

     قال تعالى ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَّفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَّقِنَا عَذَابَ النَّارِ أولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّما كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيْعُ الْحِسَابِ﴾ سورة البقرة آية 200-201 بيان لانقسام البشر إلى من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من نصب، وفي ذلك ذم وتنفير عن التشبه بمن هو كذلك. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من نصيب، وفي ذلك ذم وتنفير عن التشبه بمن هو كذلك. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، وهذه الدعوة جمعت كل خير وصرفت كل شر، فحسنة الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، إلى غير ذلك من الأمور، وحسنة الآخرة تشمل دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر إلى غير ذلك من الأمور، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام. وقال تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيْمَا اٰتَاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ سورة القصص آية 77 أي: استعمل ما وهبك الله من نعم طائلة في طاعته - عز وجل-، والتقرب إليه بشتى أنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. ولا تنس ما أباح الله في الدنيا من المآكل والمشرب والملبس والمسكن والزواج؛ فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولضيوفك وزائريك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. ومصالح الدنيا في الحقيقة ليست مطلوبة لذاتها، وإنما هي وسيلة لمصالح الآخرة، فأي شيء يعارض ظفرة الإنسان بسعادة الآخرة، يجب أن يترك أو يؤخر، وأي شيء يؤدي إلى سعادته في الآخرة، يجب أن يؤخذ ويقدم، فلا يجوز التفريط بالآخرة من أجل الدنيا ومنافعها الزائلة. والإسلام لم يفصل بين الدنيا والآخرة بل ربط بينهما، فالدنيا دار عمل وابتلاء، والآخرة دار بقاء وجزاء، يلقى فيها بنو الإنسان جزاءهم عن أعمالهم في دنياهم، وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا. ومن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها، فإن الله يعجل له حظه فيها حينما وكيفما يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم وبئس المصير، ومن أراد الآخرة لابد أن يسعى لها سعيها فيؤدي تكاليفها وينهض بتبعياتها ويقيم سعيه لها على الإيمان. والسعي للآخرة لايحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى، قال تعالى ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُوْرِ﴾ سورة الحديد آية 20 قال ابن كثير: الآية فيها تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها. قال تعالى ﴿أرَضِيْتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاّ قَلِيْلٌ﴾ سورة التوبة آية 38 وقد أمر الله تعالى بالمسارعة في أعمال الفوز بالآخرة في قوله تعالى ﴿وَسَارِعُوا إلىٰ مَغْفِرَةٍ﴾ وقوله ﴿وَسَابِقُوا إلىٰ مَغْفِرَةٍ﴾ أما أمره لعمل الدنيا، فقال تعالى ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ وفي الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا؛ ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه). قال تعالى ﴿فَإذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَىٰ وبُرِّزَتِ الْجَحِيْمُ لِمَنْ يَّرىٰ فَأمَّا مَنْ طَغىٰ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهىٰ النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ سورة النازعات آية 34-40. ﴿فأمّا مَنْ طَغىٰ﴾ أي من تمرد وعتى ﴿وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي قدمها على أمر دينه وأخراه ﴿فَإنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمأْوىٰ﴾ أي فإن مصيره إلى الجحيم، مطعمه من الزقوم ومشربه من الجحيم ﴿وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهىٰ النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ﴾ أي خاف القيام بين يدي الله - عز وجل-، وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها ﴿فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمأوىٰ﴾ أي منقلبه ومرجعه إلى الجنة الفيحاء. قال تعالى ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرةُ خَيْرٌ وَّ أَبْقَىٰ﴾ سورة الأعلى الآيات 16-17 أي تقدمونها على أمر الآخرة، وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ وَّأَبْقىٰ﴾ أي ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى؛ فإن الدنيا دانية فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول ويترك ما يدوم، إن إيثار الحياة الدنيا هي أساس كل بلوى، وهو الداء العضال الذي ابتليت به البشرية عبر تاريخها، وكما قالوا في الآثار: حب الدنيا رأس كل خطيئة. وأخبر صلى الله عليه وسلم  أن ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها إنما يحصل حينما يلقى في قلوبهم الوهن، وفسر الوهن بأنه حب الدنيا وكراهية الموت. والدواء لذلك الداء، أن تعلم أن الآخرة أفضل من الدنيا من جهتين، أنها خير منها، وأنها أبقى منها، ولو لم تكن إلا هذه الصفة الأخيرة لكان على العاقل أن يختارها فكيف مع اجتماع هاتين الصفتين، وهذا معنى قول من قال من السلف: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان على العاقل أن يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى. والله سبحانه لم يحرم علينا مباهج الحياة الدنيا، وإنما قننها لنا حتى لا نسيء استعمالها، قال تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوْا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَّوْمَ القِيامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَّعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف آية 32. والدنيا المذمومة هي تلك التي تملك الإنسان بحيث تسيطر عليه ليرتكب كل المحاذير من أجل الوصول إليها، وبأي طريق كان حتى ولو أدى ذلك إلى ظلم الآخرين، وأما الدنيا التي يملكها الإنسان ويجعلها طيعةً للوصول إلى أهدافه ومبادئه الصحيحة والسليمة، فهي دنيا ممدوحة لا مذمومة. ومن الأدلة على عدم تحريم السعي في الدنيا، قوله تعالى ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيْهِمْ تِجَارَةٌ وَّلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإقامِ الصَّلوٰة﴾ سورة النور آية 37 فلم يحرم الله - سبحانه وتعالى-، التجارة ولم يحرم البيع، بل قال في سورة أخرى ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ سورة البقرة آية 275؛ لكنه ذم الإلهاء، ولم يذم التجارة، وأثنى على عباده الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة، وتندرج تحت ذكر الله أشياء كثيرة يجب ألا تغفل عنها. قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إذا نُوْدِيَ لِلصَّلوٰةِ مِنْ يَّوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ سورة الجمعة آية 9 عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قومًا من أهل السوق أقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة. قال مطر الوراق: كانوا يبيعون ويشترون؛ ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده، خفضه وأقبل إلى الصلاة، وإذا رفع أحدهم المطرقة فأذن، ألقاها خلف ظهره ولم يطرق بها. فهذا ضابط مهم جدًا في الانشغال بالدنيا. ولنتأمل أيضًا في مسألة التجارة في الحج؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، فقدأباح الشارع الحكيم التجارة فيه، لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها «في مواسم الحج» فأنزل الله تعالى- ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاَ مِّنْ رَّبِّكُمْ﴾ سورة البقرة آية 198 رواه البخاري. فدلت الآية على جواز التجارة من بيع وشراء في موسم الحج، وإن كان التفرغ للعبادة أفضل، كما دلت على أن هذا الدين يلبي حاجات الناس، ومن يبتغ بعمله الله -عز وجل -، ولو كان عمله دنيوياً، فإنه سيؤجر على ذلك. وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم  في الخارج من بيته (إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان).

*  *  *



(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

           Email: ashmon59@yahoo.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان  1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35